عشوائية

أتساءل: ما الذي تفعله امرأة تشعر انها بالصدفة، بالصدفة المحضة، بقيت على قيد الحياة؟ كيف تسلك في الدنيا إن كان وجودها، كل السنين والشهور والأيام واللحظات الحلوة والمُرّة التي عاشتها، فضلَة حركة عشوائية لقدر غريب؟ كيف تسلك في الدنيا؟"


د. رضوى عاشور

Tuesday, December 31, 2013

2013

إجمالاً، يمكنني القول أني أشعر بالامتنان تجاه هذا العام الموشك على الانتهاء - او انتهى فعلا مع قراءة هذه السطور.

كان عام الدروس لا منازع! كم الدروس التي تعلمتها عن نفسي و حدودي و امكاناتي و قدراتي و و و... كان مذهلا بحق!

تتلخص هذه الدروس في مفردات بسيطة التركيب، و لكنها استغرقتني برهة من الزمن لاكتشفها:

القوة

"أنا لست بالقوة التي أبدو بها..."

حاسمة، قاطعة، مباشرة، صريحة، ذات توجه، صلبة، متطرفة المشاعر.. أوصاف حقيقية لأبعاد الشخصية المسماة أنا.. كنت أحسبني ملكة الـ "أبيض و الأسود"، إلى هذه الدرجة من الحسم و القوة أرى ذاتي إلى حد كبير... و لكن!

اتضح لي اني لا أملك القوة لأكون أمّا Full time!

بالفطرة و دون طلب، أتحمل المسئولية تجاه الكثيرين في حياتي، معنوياً و فعلياً، تتحرك لدي مشاعر الحماية تلقائيا و لا يستلزم ذلك أن يكونوا أصغر/أضعف/أقل مني في أي شيء! شعور فطري بالحماية يفرض نفسه على تعاملي و نظرتي مع من أحبهم حقاً.. و لكني لا أستطيع أن ألعب هذا الدور بدوام كامل!

الدور تفرضه علينا ظروف الحياة مع الأصدقاء و الأهل و المعارف بدرجات متفاوتة، ألعبه بترحاب كبير و تلقائية أكبر تكاد تكون فطرية و يكفيني و يشبعني.. و لكني لا أملك من القوة ما يتيح لي أن ألعبه باستمرارية و تفانٍ 24/7.  الكثير يتوقع منك العون و السند و النصح و التواجد و التحمل و الغفران و التضحية و التقبل و الحب غير المشروط و و و.... 

مفاجأتي، لنفسي قبل أن يكون لكم؛ أنا لست بهذه القوة!

أحتاج من أستند إليه، و من يعينني و من ينصحني و من يتحمل طباعي الصعبة و مزاجي الناري و صوتي العالي و انطلاقي في العالم و احجامي عن الناس... كل ما أمنحه بوعي او بدون، أنتظره في المقابل، بوعي او بدون.. هكذا بمنتهى التبسيط!

و احقاقا للحق، رزقت من القوة ما يتيح لي الاعتراف بضعفي، حتى لو ظن الآخرون أني أدعي او فشلوا في تصديقي.

أنا أمنح أكثر ما أحتاج إليه.. أكثر ما أفتقده.. أنا كسر لقاعدة "فاقد الشيء لا يعطيه"... لأني أفتقد الكثير من الوَنَس، أمنحه كلما استطعت إليه سبيلا، عساه يُرد إلي من حيث لا أحتسب.

منحي مشروط... بالصدق.. بالقبول.. بالحب... بالتقبل.. بالتواصل... بالوقت.. بالونس.. 

لا ترد يدي الممدودة إليك، منحا او طلبا، بصمت.
لا ترد نظري الراني إليك، رجاءا منك أو حرصا عليك، بخوف.
لا تقابل روحي، راجية الونس و الدفء، بشهوة.
لا ترد وقتي، المهدى إليك، بالانشغال.
لا تقابل نصيحتي، ممنوحة أو مطلوبة، برفض.
لا ترد طلبي، بالمنح او العطاء، بكذب.
لا تقابل قوتي، استقلالا عنك او جبرا لك، بضعف.
لا ترد على ضعفي، بسببك او معك، بقوة.
لا تقابل فرحي، صغر او كبر، بلا مبالاة.
لا ترد على حزني، كبر او صغر، بحزن يفوقه.
لا تقابل صدقي، معك او عنك، بادعاء و كذب.
 لا تتكبر على طفولتي، و لا تهزأ من نضجي.

لاقني في منتصف الطريق، و لنمشِ سويا.. هذا مقدار ما أملك من قوة، فلا تنتظر مني أن اقطع الرحلة، تجاهك، وحدي.

******

النضج

مازلت تلك الطفلة ذات الستة عشر عاما التي لا تعرف شيئا عن العالم، و إذ بها انفتحت عليها كل أبوابه دفعة واحدة، فجأة، في يوم من شهر يونيو بلا سابق إنذار، كموجة حارة هبت على البلاد فكدرت أحوال العباد.. لم تنقضِ موجتي الحارة حتى اليوم، و كانت السبب في نضج سابق لأوانه.. أعرف ذلك و أدركه كلما مررت بمواقف/أشخاص..

تركت مبكرا على لهب شعلة موقد الحياة.. أؤدي مع النار رقصة.. كحبة ذرة.. أتمنى لو أنضج لأصير حبة فيشار كبيرة مانحة للبهجة و الصحبة.. و أخاف الموت محترقة، منسية في قاع الطنجرة.. أجن من الوحدة و من انقضاء المصير إلى تحمل مزيد من حرارة في ذاك القاع وحدي حتى تبرد الطنجرة لأموت في سلام دون أحد يبكيني و دون أن أتم رسالتي بحمل البهجة. 

******

الزمن

كنت قد اكتشفت ان لي دورة حياتية مدتها ثلاث سنوات، بين نقطة ارتطام بحضيض نفسي و أخرى تمر ثلاث سنوات.

اتسعت الرؤية، فاتضح ان الدورة تتواتر ما بين قاع و قمة، أبلغ قمما و انزل عنها كل ثلاث سنوات بتتابع يكاد يكون ذو دقة حسابية، هندسية.. تلك الأشياء التي أكرهها و كانت تبكيني كطفلة.

ما بين قمم و قيعان تدور سنواتي ثلاثا ثلاثا.. و ما أظنه اليوم قاعاً، سيتضح لي غدا انه قمة، و العكس.  تعلمت الصبر - و ان كان ليس صبرا جميلا - على ما يتبدى كأنه قاعا، أو قمة.. فعما قليل سيظهر لي أصل معدنه.. تعلمت، بصعوبة، ألا أفرح بما أتاني وألا أاسى على ما فاتني.. ليس درءا للخيلاء و الفخر، و لكن استيعابا لدرس صعب.

******

الناس

يؤثرون في إلى درجة لا يمكنهم أن يدركوها، برغم شرحي لهذا الأثر، كلاما و فعلا.. سواء أكان أثر طيبا او خبيثا... لا يستوعب الناس ان تكون قويا و حساسا في ذات الوقت... كما لو أن القوة لا تتسق مع الحساسية!

أكرمني الله بثلة من ناس، مانحين.. عطاؤهم تلقائي فطري... مجرد وجودهم في الحياة يمنحني الونس الذي أفتقده.. بابتسامة، بمكالمة، بتذكار، بكلمة، بصورة، بوقت منحوه لي طواعية دون طلب في أشد أوقاتهم ازدحاما، بصحبة، بدعاء، بنصيحة، باسمتاعهم لي بصبر دون تذمر، و حتى بالمال.. و منهم من تقابلنا دقائق معدودات أو لم نتقابل حتى الآن!
منحوني من وجودهم فأثروا وجودي.. برغم احجامي عن الناس، وجودهم يمنحني دفئا و ثقة في الناس..

بهؤلاء يكمن امتناني للعام! بهؤلاء، استطعت أن أكمل العام بكل ما مررت به فيه من قيعان و قمم..أنقذوا حياتي بوجودهم في حياتي..

قد لا يدركون عظيم أثرهم، برغم أني أخبرهم من آن لآخر... هم كشموس صغيرة ينيرون الحياة و يمنحونها الدفء و الأمان و النور.. أظل دوما في انتظارهم، في انتظار شمس أرواحهم تشرق على برد روحي فتمنحها روحاً جديدة قادرة بدورها على المنح. 

 و امتحنني الله بقلة من ناس، كالثقوب السوداء.. يمتصون كل ما يمر بجوارهم حتى الطاقة... تضيع بداخلهم كل محاولات الحياة للحياة.. مستهلكين لكل شيء حتى ذواتهم يستهلكونها حتى تنضب.. لا يملكون أي شيء ليمنحوه.. و كلما منحتهم شيئا ابتلعوه و قالوا هل من مزيد.. هَلِكت محاولة اكتساب الرضى... خرجت عن طبعي لتلبية احتياحاتهم.. لأني حسبت لدي من القوة ما يمكنني من مجاراتهم.. و منحهم الأمان و الثقة.
لهؤلاء امتناني لفتح عينيّ على الحقيقة.. هناك أناس تستعصي مساعدتهم مهما حاولت.. دعهم في أحوالهم يتقلبون، لا تحاول الاقتراب حتى لا تخسرهم و تخسر روحك معهم

******

الحب 

يحتاج لقوة لا تنضب و صبر لا يُرهق، و أنا لا أملك من الاثنين إلا قليلا و بالكاد يكفيني... مازال أمامي الكثير من الـ "شفاء" و المزيد من النضج حتى أصل لهذا القدر من القوة و الصبر.. أملك من الحب ما يكفي للقيام بدور الأم السابق ذكره كـ Part time! 

ولا أملك له أي قدر من الحرية يتيح لي لعب دور الحبيبة. كانت هذه إحدي مفاجآت هذه الدورة الثلاثية من حياتي.. أنا لا أملك من الحرية ما أستطيع ان أسقي به شجرة حب لتنمو مكتملة و صحيحة لتزهر و تثمر.. قيودي بداخلي.. لم أستطع تكسيرها برغم ما مُنحته من حرية خارجية و استقلالية و انطلاق.. أدرك الآن قصوري في تحقيق تلك الحرية داخلي.. مايزال طوطم الخوف من الفشل قائما داخلي يحول بيني و بين النجاح في الحب.. ما يزال العقل/الضمير يمنعني من الاستغراق في حالة حب بكاملي دون حسابات و تفكير و أفكار في عواقب و نتائج ذلك الحب.

فبمجرد إطلالة ذلك الجني من طرف القمقم مُلأ الكثيرون رعبا و ولوا منه فراراً.. من فر لساتر من الحجج، و آخر رمي ذنوبه عليه، و آخر أسقط عيوبه عليه و فر، و من أراد تكبيله من جديد لأنه لا يقوى عليه، فزاده -طبعا- رَهَقا! 

أدرك بكامل وعيي أن كل هذا مشروط بـ الرجل الصحيح... ذلك الـ "الواحد الصحيح" الذي سيَجبُر كسوري..
يعلمني عن نفسي ما استعصى علي تعلمه بنفسي.. يعرف أني بسيطة و متشابكة، كالحياة، أحتاج الصبر و القوة و حب متبادل لكي تنفك اشتباكاتي.. لا تفزعه صراحتي و لا ينتظرها بل يبادئني إليها.. لا يخاف قوتي، بل يدرك أنها من أجله و لأجل انتظاره.. لا يقلقه ضعفي و يعرف أنه لأجله و بسبب انتظاره.. يمنح دون طلب فيسبق أي أمنيات.. يحبو يصدق في ذلك الحب، فتحمل التفاصيل ذلك الحب دون جهد و بحث.. يدرك الروح المحبوسة داخلي و يملك من القوة ما يتيح له أن يطلقها و يتعامل مع الجني الخارج توا من القمقم ببساطة و تلقائية دون فزع و لا رغبة في "قمقمته" من جديد..

يرى الطفلة و الأم و الصديقة و الحبيبة و الأخت في كل الأوقات بنفس العين و يعرف عن ظهر القلب ان كلهن حاضرات في نفس اللحظة فيمكنه استيعاب خليط الخوف و القلق و الاستسلام و الضجة و الدلال و الغضب و التمنع و الغيرة و التحبب و النديّة و المحبة و المقاومة و الانصهار فيه و الاستقلال عنه في نفس الكأس.. تلك الكأس التي شَرْبَتَها لا يظمأ أحدنا بعدها إلا لمزيد منها... 

*****

الصبر... و جميع ما سبق

أملك منه/م أكثر مما كنت أظن، و أقل مما يتيح لي الحياة في سلام على الأرض... مازلت أحتاج للكثير.....

*****

خاتمة:

لكل من تسبب ضعفي و قلة حيلتي و خوفي و حيرتي و قلة صبري و قيودي و ارتباط منحي بشروط محبتي في أذاه،سامحني..

قد آذيتني حين اقتحمت حياتي و افترضت دورا فيها وانت لا قبل لك بها.. و أنا أسامحك.. 

و اني أسأل الله لي و لك الغفران.. و أن يمنحنا من البصيرة و الحكمة ما ندرك به ضعفنا و ذنبنا و لا نرمي بهم الآخرين، و أن يمنحنا من القوة و العلم ما ندرك به ما فاتنا من قصور و نقص.. و يرزقنا قلبا لا يحمل إلا خيرا و صبرا و تقبلا للغير.

*****
شكرا يا رب.. أتمنى أكون باتعلم الدرس صح...

شكرا لكل شخص مر في حياتي و مشي معايا او كمل في طريق منفصل.. اتعلمت منك حاجة، حلوة او وحشة، لكن الأكيد انها بتساعدني أبقى إنسانة أحسن.. و اتمنى تسامحني لو كان اللي علمته لك مش حلو زي ما كان نفسي.

شكرا 2013 على كل شيء... ممتنة جدا للشعور بالرضى اللي سايباه لي.





Tuesday, November 26, 2013

يا شمس

بعد يوم و ليلة من الركض بين صورك عساك تأتيني زائرا لمنامي.. هلا ترفقت بي إن أتيت، و أطلت لقائنا قليلا.. حتى يوم الدين؟

هلا أطلت ضمّة الكف للكف حتى يسكن القلب في الفرحة و يعتادها.. طويلا؟

هلا طبعت ابتسامتك على عيوني؟ هلا داويت روحي بأناملك حاملة البهجة؟ هلا لمست العمر بعصاك السحرية فيزول عنه الحزن و الأسى و تملأه سحرا و جمالا؟

أطل بقائك قليلا.. أطل فرحتي قليلا.. عساها تحدث المعجزة فتذوب الحدود و الحواجز و نعود روحاً، لا اثنتين، طال بنا الشتات حتى التقينا صدفة.

أطل بقائك قليلا... في منامي.  

Tuesday, November 12, 2013

يا شمس..

أود لو أصرخ... 

أحبك.. أحبك... أحبك...

و لكنك مثل كل شيء أحبه.. لست لي. 



Monday, August 19, 2013

سؤال

و أنا أحكي معه شذرات من ماضيّ.. أتذكر شغفي بالأشياء.. ولعي بالحياة.. 
كم كنت أهوى القراءة في كل شيء.. و الحكي عن كل شيء لقلة من الصديقات... 

أتذكر يوم خطوت داخل مكتبة كبيرة للمرة الأولى... كيف كان انبهاري.. كيف انذهلت عما حولي برائحة الكتب، و رفعت أنفي أتشمم الهواء كأني أكتشف حاسة الشم لأول مرة...

كيف كان ينظر لي من حولي باندهاش.. ما بال تلك الصغيرة؟ 

أتذكر فرحتي و خطواتي التي لا تكاد تلمس الأرض فرحاً و خيلاء بما أحمله من كتب اشتريتها من "المكتبة الكبيرة" لأول مرة في حياتي! كتب اكتشفت بعد سنوات انها مقررة على طلبة السنة النهائية بالجامعة.. و انا كنت مازلت في الثالثة عشرة! 

أحكي له و ترتسم على شفتي ابتسامة طفلة غابت عن ذاكرتي طويلاً... الطفلة و الابتسامة معاً!

أين ذهبت الطفلة؟ الشغف؟ الابتسامة؟

كيف سرقتني الحياة من الحياة؟ 

سؤال محا الابتسامة من على وجهي مرة أخرى.. و ضببت غيومه صورة الطفلة... حتى اختفت...

Friday, July 5, 2013

خِـــبــال

في غرفة ضيقة.. يهدر مكيف الهواء مصدراً صقيعاً... تتضخم الوحشة حتى تملأ فراغ الغرفة الضيّق بالأساس.. تغيم الرؤية و تصبح الموجودات عدم.. ثم تتجسد بغتة، فيتلفت حوله غير عارف أين يكون و لا كيف وصل إلى هذه الغرفة الضيقة ذات البرودة القارسة برغم الأغطية... التي - بالمناسبة - لا يطقيها و لا يطيق البرودة دونها في نفس اللحظة في تناقض عجيب لا يدري من أين له به!! 

هناك وجود ما بالغرفة يكافح للحصول على نَفَس.. يُنازع من أجل الهواء منازعة حقيقية... يرتج الفراش - الذي يبدو أن هذا الوجود يستلقي عليه محاولاً النوم مع معاناته في التنفس - فيبدو خيار النوم خيارا سخيفاً، مثيرا للغثيان مع تلك الارتجاجات المتواصلة مع كل نَفَس... يتباين رد الفعل مع هذه المعاناة ما بين التعاطف و الضيق و العصبية و عدم الفهم..
تصدر غمغمات غير مفهومة من ذلك الوجود، فيزداد حيرة و انفصالاً عن الواقع كلما حاول تفسير "معاناة التنفس" أو "الغمغمات الغامضة".. ثم يبدأ الشعور بهذا الوجود في التلاشي تدريجياً مع إزدياد تشوش الرؤية و إزدياد صعوبة الإدراك..

يصمت المكيف قليلاً و يصدر عنه صوت خرير مياة.. فيزيد شعوره بأنه موجود في "كهف"... 

الظلام يغلف رؤيته برغم الأضواء الاصطناعية فوق رأسه.. و صوت تنفس "الوجود" - الذي لا يعرف بماذا يشعر تجاهه الآن، و إن كان على الأغلب لم يعد يشعر تجاهه بشيء على الاطلاق - يزداد معاناة و "رجّاً" للفراش... 

يفكر "هل يمكنني الهرب؟!"

تأتيه أصوات من خارج المكان لقرع طبول مجهولة المصدر - الطبول و الأصوات - فتقذف في قلبه الرعب فينكمش على نفسه محاولاً استعادة نفسه... يحاول التنفس بعمق ليهدأ.. فيكتشف أن المكيف قد جمد هواء الغرفة - الضيقة سيئة التهوية أصلاً - فيشعر انه يكافح لكي يتنفس - هو أيضاً - فيزداد انكماشاً....

يزداد تماوج الرؤى أمام عينيه فيصعب عليه ان يقرر هل هو يرى أم يتخيل..  يدور في الغرفة كنمر حبسوه في قفص أضيق من حجمه... يذهب لزاوية -يتصور هو - أنها الحمام.. يغسل وجهه و ينظر لما يتراءى له كأنه وجهه فلا يعرفه فيدير رأسه عن المرآة هرباً...
يشعر أنه سيرتاح لو أفرغ جوفه و لكن لا يستطيع حسم أمره "كيف".. يدور بعينيه في أرجاء الحمام و يفكر "إنه حمام أنيق! لو امتلكت المال الكافي لجعلت حمام بيتي مثله.. قد أغير في الألوان.. يمكن"... يزيد من تجوال عينيه في أرجاء الحمام و يشعر انه ارتاح قليلا و لا يدري لمَ!
الحمام أدفأ من الغرفة كثيرا حيث أنه يقع خارج نطاق صقيع المكيف.. يظن أن هذا ما يشعره بالراحة... تنتزعه الغمغمات الغامضة من شروده فتدفع الصقيع في عروقه مرة أخرى حتى و هو بعيد عن المكيف..

يجد نفسه مدفوعاً للعودة للغرفة الضيقة - التي يبدو الآن الحمام أوسع منها بدون أن يدري كيف يمكن ذلك - فيعود زحفاً داخل  الغرفة..
هو يشعر انه يزحف برغم أنه يقف على ساقيه معتدلاً.. استغرب ان الزحف قد يأتي في صورة "شعور" و ليس "فعلا"... يستمر في الزحف - شعوريا - تجاه الفراش المرتجّ مرة أخرى..
"ماذا أفعل هنا؟!!!" يدّوي السؤال بين جنبات عقله، فتميد به الأرض و يشعر انه على وشك فقدان اتزانه.. كيف يمكن ذلك لمن يزحف على أربع؟؟!!! يزيده ذلك الشعور ارتباكاً فيسقط على السرير ولا يعرف هل تلك الارتجاجة بسببه ام بسبب ما يكابده "الوجود" ليلتقط نفساً.. يشعر بالألم من أجل ذلك الوجود فجأة.. لا ينبغي لأي كائن ان يجاهد من أجل التقاط أنفاسه!! هذا شيء مؤسف حقاً!! من فعل بك هذا أيها المسكين؟! يختلط عليه الأمر حين يعجز أن يحدد هل كان السؤال موجها للـ"وجود" أم لنفسه.. ينفضه عن رأسه موغلا في التيه.. 

مستلقياً على الفراش جاهلا ما يمكنه أن يفعله في حالة انعدام الادراك تلك.. يفكر "على أن أتواصل مع أحدهم بأي شكل.. سيعيدني هذا لتوازني.. لابد!".. .يهرع إلى التليفون.. يمسح شاشته باصابعه.. يحدق في الأسماء التي كانت تملأ أيامه كلاماً و صخبا في السابق - أو هكذا يظن... يعني، يمكن! - لا يعرف من منهم يكلم و لا ماذا يقول له... تتراءى له جُمل من عتاب او مجاملات او أحاديث سطحية قد يفتح بها مجالا للحوار.. يفكر: " و لكن أنا لا اعرف هؤلاء القوم!!! يبدو أنني كنت أعرفهم في السابق و لكن Not any more!! يستغرب الحروف الأعجمية التي تراصت على لسان عقله و لكنه لا يتوقف عندها كثيرا...

يشعر بنفسه خفيفاً كأنه لا وزن له.. و برغم ذلك يشعر و كأن أحدهم قد سمّره للأرض.. لماذا لا يقوى على الحركة.. "لو خرجت من هذه الغرفة سأكون بخير"، هكذا يفكر لنفسه.. " و أين ستذهب؟!" يرد عليه صوت ما لا يعرف مصدره و لا يكترث للمعرفة..

"الموسيقى تنقذني كل مرة.. سأدير بعض ملفات الموسيقى من الجهاز و سأصبح بعدها على ما يرام"... يتذكر معركة دارت أمامه بين آلة البيانو الراقية و آلة الكمان - الراقية أيضاً - و التي - المعركة لا الكمان - كانت تنأى كل النأي عن الرقي.. فيشعر بزيف الأشياء كلها و يترك سماعات الأذن معلقة في الجهاز بدون أن يشغل أي موسيقى.. يشعر بالألفة مع وضع السماعات معلقة هكذا.. هو يشعر انه معلق أيضاً.. لا يعرف لنفسه هدفاً ولا من علقه و تركه هكذا... ياله من قنوط! 

"لابد أن أهرب من هنا".. يشعر بعزيمة ما تتسرب إلى عروقه.. و لكن حين يتذكر أنه قد جاء إلى "هنا" هارباً من "هناك" يشعر بمزيد من  القنوط.. ليس الأمر "هنا" أو "هناك"... المشكلة فيك لأنك تحمل نفسك أينما ذهبت.. كيف تهرب من نفسك؟! 

عطش حارق يكوي حلقه كأنه لم يشرب منذ دهور.. و لا توجد سوى زجاجة مياة واحدة حتى الغد.. يزداد شعوره بالعطش حين يدرك تلك الحقيقة، و يقرّع نفسه أنه لم يشتر زجاجة كبيرة في عودته من الخارج.. "متى كنت بالخارج؟! لا أذكر!!"..

يشعر بمقلتيه تدوران في محجريهما بلا هدف.. و هذا الدوران يشعره بمزيد من الدوخة التي لا يعرف ان كانت محببة أم مزعجة...

شعور بالذنب يخنقه.. أنا اخطأت في حق فلان.. و لكن لماذا يصعب عليه ان يسامحني مرة؟! سامحته مرات و كان خطؤه أكبر مني! ياله من مغرور!!!
يالي من مغرور أطالب الناس بالغفران متى أشاء، لا متى يقدرون..
ما كل هذا الغباء الاجتماعي؟!
ما هذا المصطلح؟! "الغباء الاجتماعي"..  يبدو مصطلحاً ذكيا جدا لا يصدر عنه في حالة الارتباك التي تنتابه الآن.. و لكنه في العادة ذكي.. هكذا يعلقون على ردوده السريعة الحاضرة المنطقية دوماً التي لا يبدو أنه يجتهد في الاتيان بها.. و كأنها فطرة بديهية..

أحتاج للنوم.. يوووووه! قلنا النوم يبدو سخيفاً مع ارتجاجات الفراش بسبب الوجود الذي يقاتل من أجل التنفس، و هدير المكيف، و أصوات الطبول، والشعور بالدوار و الخفة و الثقل في نفس اللحظة، و احساس الذنب الخانق تجاه هؤلاء الأشخاص الذين يضنون علي بالغفران و لا أعرف ماهي علاقتي بهم، و تلك الحروف الأعجمية التي تتراص بجوار مصطلحات ذكية منمقة تتوارد على ذهني بسلاسة، كأنها بديهية و هنالك منذ الأبد، في هذا الكهف الضيق المظلم الخانق، الذي تكاد برودته تقتل، ذو الحمام الأنيق بألوانه الرائقة، التي لو امتلكت المال الكافي يوما لقلدتها في بيتي، حين أتمكن يوما من تحديد كيف أريد أن أفرغ جوفي، و أقدر على الهروب من نفسي، و أطفيء ذلك الظمأ الحارق حين أشتري زجاجة مياة  وانا عائد من السوق، و أجد الطريق إلى البيت...  


By Anne Fennigan

Wednesday, March 20, 2013

عِــيــد الأم

الأمومة..

ذلك الوجود الغامض الذي هو أحد مفردات حياة أية فتاة منذ ولادتها.. فهي أول ألعابها منذ أن تعي، ثم تكبر لتكون أمّاً لأخواتها، ثم تكبر أكثر فتكون أما لزوجها، فتأتي الأمومة الطبيعية كشيء اعتيادي و فطري للغاية يكاد يُبذل بلا جهد و كأنه أمر روتيني تكرر كثيراً..

طوال سنوات كثيرة كنت أكره اليوم المسمى بعيد الأم! لطالما فكرت، لماذا لا يراعي العالم مشاعر هؤلاء مفتقدي الأم في حياتهم؟! لماذا لا يراعي العالم مشاعر النساء المفتقدات للأمومة لسبب أو لآخر؟! ما كل هذه الاحتفالات بلا مراعاة للآخرين؟!

أظن اني اول ما أخذت تلك الأفكار في اعتباري كان بعد وفاة جدتي لأمي... فقدتها امي و انا بعد في السابعة من عمري... فلم أبك جدتي افتقاد لها، و لكني بكيت افتقاد امي لها..
أذكر جيدا ان اول ما فكرت فيه حين وصَلنا خبر وفاتها "ياعيني يا ماما".. ثم تحول الأمر لعادة بكاء الأحياء ممن يخلّفهم ورائهم الذين ماتوا لا بكائهم هم، الذاهبون لمكان أفضل كثيرا...

كما أني لا أستطيع أن أجد سببا لبكائي كل مرة، بلا مبالغة، استمع فيها لأغنية "سيد الحبايب يا ضنايا" لشادية.  حين كبرت ظننت اني ربما بكيت بسبب معرفتي أن شادية لم ترزق الأطفال أبدا.. و لكني كنت دوما ابكي بمجرد سماع المقدمة الموسيقية لتلك الأغنية حتى قبل أن اعرف تلك المعلومة.. ربما أبكي توحدا معها، او تضامنا.. او تنبؤا بمستقبل يخلو من أطفال أتشاركهم مناصفة مع أحدهم..

و لكن، و برغم كل ذلك التاريخ من العداء لفكرة "عيد الأم".. و بما تكون لدي من عداء تجاه الأطفال نفسهم منذ عدة سنوات جعلني أزهد فيهم كل الزهد، زهدا حقيقيا مخلصاً لوجه الله تعالى و هو على ما أقول شهيد.. إلا ان الحال يختلف هذا العام!

لماذا؟!

لأني اكتشفت فجأة، كسطوع البرق في كبد السماء، أن لي أكثر من أم!

أكثر من أم انا جد محظوظة بوجودهم في حياتي و ممتنة لأمومتهم كثيرا بما يفوق كل قدرتي على التعبير..

أمي... رضوى... تلك التي هي أمي على البُعد.. أمي بالحروف و الكلمات التي أعادت تشكيل انسانيتي.. أعادت تشكيل وجداني.. التي غمرتني كلماتها حنانا و رقة و أمومة حتى بدون أن أراها... تلك التي تمنيت ان أقبل يديها اعترافا بفضلها علي بلا غضاضة و لا خجل لولا مخافتي من ان تشعر هي بالحرج.. أمي على البُعد التي يؤلمني ألمها و يشعرني بالعجز.. أمي التي أدعو لها بالشفاء بتضرع حقيقي و خالص إلى الله و هي لا تعلم و لن تعلم...

أمي... أميرة... تلك التي هي أمي الصغيرة.. التي أحيانا ما تلعب دور ابنتي.. و دائماً هي أختي و مرآتي.. تلك التي يربطنا ما هو أقوى من الدم.. تلك التي لا تبعدنا مسافات و لا زمن مهما طال كل منهما.. تلك التي هي ضمير حي لي، تلك التي تأتيني من حيث لم أنادها، فتربّت على قلبي بكلمة طيبة.. و نكتة.. و دموع غزيرة نتشاركها سويا... فتبدو الدنيا أقل سوءا مما هل عليه، و يصير العالم قابلا للتحمل لحين موعد التربيتة القادمة من قلبها على قلبي..

أمي.. أمينة.. تلك التي هي أم بالفطرة لكل من تعرف.. برغم طفولتها البادية رغما عنها.. تلك التي تشعرك بالأمومة كلما أدركت مدى قوتها و صلابتها أمام الزمن.. تلك التي تشعرك بالأمومة كلما أدركت كيف انها تستمد الحنان من فيض حنانها على الآخرين.. شاءت أم لم تشأ.. تلك التي تتهاوى كل أقنعتها فتصير طفلة بقلب أم في ضحكة جزلة في لحظة جنون لا أشاركها أحد سواها..

أمي.. روضة.. تلك التي رأت اني شببت عن الطوق فتركتني لعالمي لا تروم تدخلا فيه.. و لا تعتب نأي عنها.. تلك التي أخفت آلامها حماية و محبة و حنانا.. تلك التي لم تطلب يوما بل كانت دوما مانحة.. تلك التي أكدت لي في يوم من الأيام أن الصداقة ليست بالوقت، و لهذا فانا دوما مقصرة تجاهها .. تلك التي أشعر بالتقصير و الضعف كلما رأيت ابتسامة رضاها في وجه زمن عبثي.. تلك التي تذكرني كيف تكون القوة الحقة...

أمي.. مروة.. تلك التي بلا مجهود تفيض حنانا و قربا يجعلها تبدو كأنها بقلبك من قبل أن يوجد قلبك، و كأنه خلق و هي فيه.. تلك التي في كل مرة بهدوئها و رصانتها تشعرني اني طفلة متهورة تحتاج لكثير من التعقل.. فأنهل من نهر حكمة تتفوهها في بساطة و تلقائية و بلا تكلف فأتعلم مع كل حرف، و موقف، و لفتة، و حكاية معنى ان تكون - حقاً - إنــســان.. معنى أن تكون ناضجاً حقا لا ادعاءا.. تلك التي يتوارى غضبي خجلا في حضرتها..

أمي.. شيرين... تلك التي تغلف تعاملاتها بكل الأقنعة الواهية الهشة التي سرعان ما تتكشف عن حنان مغرق.. تلك التي تبذل الكثير لأسعد.. تلك التي تخفي شكوتها و ألمها مهما اشتدا حتى لا تزيد من هامش الحزن و لا الأسى في يومي.. تلك التي أتعلم منها الكبرياء بلا تكبر.. التي تفرض على العالم رقياً برغم كل سوقيته.. هي الأم التي تعلمك الإتيكيت و الذوق و الأصول بمنتهى التلقائية و بدون محاضرات.. تلك التي تشعر أن البوح ابتذال فتهوّن عليك كل ما يؤلم بتساميها عن الألم..

أمي... مريم.. تلك التي لن تدرك أني أراها أماً.. هي حقاً تذكرني بأمي الحقيقة.. بصخبها و حبها للحياة، تماماً كأمي.. تلك التي تبكي خوفاً علي، تماما كأمي.. تلك التي تروض ثورات غضبي بصمت متفهم كلما انفجرت امامها، تماما كأمي... تلك التي لم استطع يوما ان اغضب منها حين اخطأت، تماما كأمي.. تلك التي بكيت خوفا عليها، تماما كأمي، و انا لا املك لها من حيلة سوى أن أكون هنالك.. تلك التي لن تعرف أنها تعني لي كل ذلك، تماما كأمي...

و بناتي الحبيبات... مرام و مارلين.. أولئك الذين منحوني من الصبر و الحب لألعب انا دور الأم معهم.. حباً و شعورا بالحماية.. و شعورا بالفخر و الاعتزاز... بناتي الحبيبات اللاتي لم اكن لأنجب بناتا افضل منهن و لا أحسن خلقا و لا أخف ظلا.. لم أكن لأنجب من يسمعن لي مثلهن و يتركنني ألعب دور الأم بحرية مثلما يفعلن.. بناتي الحبيبات.. اللاتي لم تحملهن بطني و لكن يحملهن قلبي.. فرحة لفرحهن و ألما لألمهن و فخرا بكل ما يملكن من قوة و عناد..
ملحوظة: "مرام الكبيرة يا مارلين و أول فرحتي.. مافيناش من زعل!" ;)

أمي... جيهان... التي التي أعطتني عمرا.. و اسما من قبل ان أولد.. تلك التي دفعت ثمن حياتي من دمها و دموعها و ايامها انتظارا طويلا... تلك التي أتمنى ان تطال يداي نجوم السماء لأرصفها طريقا تحت قدميها... تلك التي تحيل ايامي جهنما حمراء و برغم ذلك تبدو الجنة قليلة عليها... تلك التي أدرك حقا و صدقاً انها قدمت لي أفضل ما تملك يداها، بل كل ما ملكت يداها من حب و وقت و مال و خوف علي... تلك التي تمرض حين أحزن... تلك التي صارت تلعب دور ابنتي منذ ست عشرة سنة و تغضبني منها ولا اغضب عليها ابدا.. تلك التي اغضبها كثيرا جدا و احيل قلبها نارا و حطاما بكلماتي و لا تغضب علي ابدا.. تلك الطفلة العنيدة، المحرومة، الشقية، المتخفية وراء صفات برج الأسد و لكني أدرك تماما مقدار هشاشتها.. تلك التي لم تحقق من أمانيها شيئا سواي فلا تخيب املها في يا الله.. و اجعلني لها قرة عين في حياتها.. و دعاء و عملا صالحا في آخرتها.. و شفعها في يوم العرض عليك يا من خلقت الرحمة في قلوب الأمهات ليعمر العالم برحمتك على ايديهن...

يا كل أمّهاتي.. يا من تعرفن مقداركن لدي و يا من لن تعرفن ذلك أبدا لتقصير مني، او خجل، او بُعد...

كل عام و أنتن بخير..
انتن من جعلنني أحب عيد الأم لأول مرة من ثلاثين عام.. و أنتن من تجعلن لي شيئا في هذا العالم.. انتن من تبقينني على قيد الـ حياة ... حقاً لا تماهياً..